ولعٌ كوبي فتّاك

أضحى افتتان أهل كوبا بطيورهم البرية المغردة يعرضها للخطر.

ولعٌ كوبي فتّاك

أضحى افتتان أهل كوبا بطيورهم البرية المغردة يعرضها للخطر.

قلم: دينا فاين مارون

عدسة: كارين آغنر

1 سبتمبر 2022 - تابع لعدد سبتمبر 2022

بدأ الرجال يَصِلون مع مُطرِبيهم الخارقين في صبيحة يوم أحد. تفادوا في أثناء سيرهم الحشائشَ الطويلة وأكوام القمامة التي كانت تسد الدربَ الضيق، حتى بلغوا موقع التجمع بمكان منعزل في مدينة هافانا. كان ذلك في شهر سبتمبر -موسم هجرة الطيور في كوبا- وقد أدى توافد الطيور المغردة الأثيرة في الآونة الأخيرة إلى موجة عارمة من الصيد والبيع بصفة غير قانونية. وكان الطلب مرتفعًا على طائر الدرَّسة الملونة (Passerina ciris) والدرَّسة النيلية (Passerina cyanea) والغروسبيك زهري الصدر (Pheucticus ludovicianus).. وتلكم فوضى جماعية من الألوان والألحان. كانت أيام الآحاد مشهورة بتنظيم مسابقات للطيور المغردة. قبل أيام على ذلك، كان شخص قد نشر موقع هذه المسابقة على واحدة من عشرات المجموعات "الفيسبوكية" الخاصة بالطيور المغردة الكوبية، والتي انضممت إليها في يوليو 2021. لم أتمكن من السفر إلى كوبا ساعتَها بسبب قيود الجائحة؛ لكن وافق مسؤول كوبي محلي على حضور ذلك اللقاء السري نيابةً عني، مشترطًا عدم الكشف عن هويته. وصيدُ الطيور المغردة محظور، إلا لأغراض البحث العلمي، بموجب قانون كوبي صدر عام 2011 بشأن التنوع الحيوي. وكذلك شأن المسابقات التي تشهد رهانات على طيور تغني أطول مدة وبأكبر عدد من الإيقاعات والنغمات. ومع ذلك، ينشر الأشخاص علنًا مقاطع فيديو لتلك المسابقات، وتَذكُر منشورات عرض الطيور المغردة للبيع على "فيسبوك" -على نحو صريح وعلني- تلك التي صِيدت بمصائد في البرية. 
تقول "سوتشيل أيون غيميز"، عالمة الطيور وقيّمة قسم الطيور لدى "المتحف الوطني للتاريخ الطبيعي"، في هافانا، إن الإغلاق بسبب الجائحة سرّع عجلة هذه التجارة المحظورة عبر الإنترنت. لم يُلبِّ المسؤولون الكوبيون طلبي الحصولَ على تفاصيل بشأن صيد الطيور المغردة وتهريبها والمتابعات القضائية لمرتكبي هذه الجرائم. وتُعد تربية الطيور في الأقفاص تقليدًا راسخًا لدى كثير من الكوبيين؛ "لذا ظلت هذه الممارسة مقبولة اجتماعيًا على الرغم من كونها مخالفة للقانون"، كما يقول "مايكل كانيزاريس"، عالم طيور لدى "وزارة العلوم والتقنية والبيئة" في كوبا. يعود تاريخ هذه الهواية إلى زمن الغُزاة الإسبان، وما فتئت شعبيتها تزداد منذئذ، كما يقول عالم الأحياء "هيرالدو ألايون غارسيا"، الرئيس السابق لدى "الجمعية الكوبية لعلم الحيوان" والرئيس الحالي لـ "أريغوانابو فونداسيون"، وهي منظمة غير ربحية تُعنى بالطبيعة والعلوم والثقافة. ويستطرد قائلًا إن كثيرًا من الكوبيين يرغبون بالحصول على طيور مزركشة وجعلها في بيوتهم للاستمتاع بأغانيها وجمالها، ويتناقل الناس هذا الموروث الثقافي من جيل إلى جيل. وتُعد الطيور المغردة تجارةً أيضًا لدى بعض الكوبيين. إذ أدى نقص الغذاء في الآونة الأخيرة والضغوط الاقتصادية الناجمة عن سياسات الولايات المتحدة إلى شح في السيولة المالية؛ فضلًا عن أن صيد الطيور البرية المغردة بصفة غير قانونية أرخصُ وأسهل من تفريخها في المنازل. وتعليقًا على ذلك، تقول "ليليان غويرا"، أستاذة التاريخ الكوبي والكاريبي لدى "جامعة فلوريدا": "إن حجم الأموال التي يمكن جنيها من [تجارة الطيور المغردة] محدود جدًا". على سبيل المثال، تُنشَر على "فيسبوك" إعلانات لبيع طيور بسعر زهيد قد لا يزيد على 20 دولارًا؛ فيما تتفاوت مبالغ الرهانات في المسابقات على نحو كبير.. لتبلغ آلاف الدولارات. والحال أن صيد الطيور البرية المغردة ما فتئ يتفاقم، مُحدِثًا خسائر فادحة. يقول غارسيا، البالغ من العمر 75 عامًا: "من شبه المستحيل في أيامنا هذه" العثور على طائر غراسكويت الكوبي (Tiaris canorus) في بعض الأماكن، على أن هذا النوع "كان شائعًا في زمن طفولتي". ولدى هذا الطائر، المتوطّن في كوبا، حظوة بفضل أنغامه الصافية عالية النبرة ولونه الأصفر المشرق خلف العينين وحول العنق. يقول غارسيا بألم وحسرة: "لا شك بأن غراسكويت الكوبي الآن معرض للخطر بسبب أنشطة الصيد".
وينسحبُ الأمر ذاته على طائر الدرّسة الملونة، بصدره الأحمر الزاهي ورأسه الأزرق وجناحيه الخضراوين (وهو معروف في كوبا باسم ماريبوسا، أي الفراشة). تهاجر أسراب هذا الطائر بين جنوب شرق الولايات المتحدة ومنطقة البحر الكاريبي، وتُفيد الإحصاءات الدورية لطيور أميركا الشمالية أن أعدادَه انخفضت بِحدّة في العقود الأخيرة من جرّاء تضاؤل موائله الطبيعية والاتجار غير القانوني به في كوبا وأماكن أخرى. ويقول خبير الدرّسة الملونة، "كلارك راشينغ"، من "جامعة جورجيا": "ليس ثمة سوى معلومات شحيحة عن عدد الطيور التي تُصاد". وحسبَ تقرير صدر عام 2004، اصطاد ثلاثة أشخاص زُهاء 700 طائر درّاسة ملونة في إقليم كوبي واحد خلال إجازة نهاية أسبوع واحدة. يقول إن ذِكرَ أرقام كهذا شائع في الروايات المتناقلة، لكن يَصعب معرفة ما إذا كانت حالات معزولة فحسب. لتعقّب هجرة طيور الدرّسة الملونة، استخدم راشينغ وفريقه قبل خمسة أعوام شباكًا لصيدها في مناطق تناسلها بأراضي فلوريدا وولايات أميركية أخرى. ثَبَّتَ الفريق أشرطة لاصقة تعريفية حول كواحل الطيور، وزوَّدوا كلًّا منها بحقيبة ظهر دقيقة تحوي جهاز تحديد المواقع، ثم أطلقوا سراحها. فوجد هؤلاء الباحثون أن تلك التي تُتم رحلة الهجرة إلى مناطق قضاء فصل الشتاء في كوبا، كان احتمال عودتها إلى الشمال أقل بنسبة 20 بالمئة من التي تخوض رحلات أقصر. ويقول راشينغ إن تلك الرحلة الطويلة فوق المياه المفتوحة قد تفسر حدوث جزء من تلك الخسائر في الأعداد، لكن الصيد قد يكون أيضًا عاملًا مسبِّبًا. وتقول المصورة "كارين آغنر" إنها حينَ كانت في كوبا، وافق صيادون على بيعها جهازًا لتحديد المواقع نزعوه من طائر درّسة اصطادوه حديثًا. يقول راشينغ: "استطعنا التأكد من أن ذلك الطائر كان قد وُسِم بالشريط التعريفي في كارولينا الجنوبية". وأقرَّ الصيادون لآغنر أنه لم يكن الطائر  الوحيد الذي اصطادوه.

يقول "إدواردو إينيغو إلياس"، باحث رفيع المستوى متقاعد في "مختبر كورنيل لعلم الطيور"، إن المراهقين يقترفون كثيرًا من صيد الطيور غير القانوني؛ إذ "يتَحَدّى بعضهم بعضًا في صيد أكبر عدد من الطيور للحصول على النقود". صحيحٌ أنَّ مِنْ أهل كوبا من يَبكون طيورَهم عندما تنفق؛ ولكنْ منهم من يعرّضها إلى ظروف عصيبة مُجهدة حين يدرّبونها على المنافسة؛ فقد يُجبرونها على تعلم أغانٍ وألحان تُشغَّل مرارًا وتكرارًا بوتيرة متواصلة. تقول غيميز إن الصيادين الأصغر سنًا "أشدُّ قسوة"؛ فبعضهم يُطعم طيورهَ المغردة المنشطات لتقوية أدائها. أمّا "كبار السن فلا يعطونها المنشطات"، كما تقول غيميز، ولكن قد يَعمد الشبّان من أصحاب الطيور المتنافسة إلى كَيّ عيونها بملعقة حامية، ظانِّين أن الطيور المحلية ستستمر في التغريد إنْ كانت غير قادرة على رؤية خصومها.
وما فتئ الضغط الشعبي يزداد في كوبا لوقف تجارة الطيور المغردة. في أغسطس 2020، نشرَ الرئيس "ميغيل دياز كانيل بيرموديز" تغريدةً باللغتين الإسبانية والإنجليزية قائلًا: "يجب أن نتصدى للاعتداءات غير القانونية ضد النبات والوحيش. لا لتهريب الطيور البرية!". رافقت كلماتَه صورٌ لطيور مغردة، منها الدرّسة الملونة وغراسكويت الكوبي. وقد اتسعت رقعة صيد الطيور المغردة لتشمل الولايات المتحدة، ولا سيما حوالي مدينة ميامي، معقل الأميركيين من أصل كوبي. إذ تُصاد في الغابات والأفنية الخلفية للبيوت في فلوريدا كل عام، آلاف الطيور المغردة؛ ومنها تلك التي تهاجر إلى هناك من كوبا، كالدرّسة الملونة. ووفقًا لسلطات إنفاذ القانون في فلوريدا، فإن كثيرًا من الصيادين هم من أصل كوبي. وتُهرَّب الطيور المغردة من كوبا أيضًا. ففي يناير 2016، أوقف مسؤولو الجمارك في مطار ميامي الدولي، "هوفاري مونيز"، وهو شخص مقيم في ميامي وصل من كوبا ومعه تسعة طيور مخبأة في حقيبة خِصر وفي أنابيب بلاستيكية في ملابسه الداخلية. وبعد أن تمادى في بيع الطيور المهاجرة المحمية في فترة سراحه المؤقت، حُكم عليه بالسجن 15 شهرًا في أحد سجون الولايات المتحدة.
يقول غارسيا إن الناس يرغبون بالقرب من الطبيعة، كما أن صيد الطيور المغردة أمرٌ راسخ في الثقافة الكوبية. ويُردف قائلًا: "إن أصعب شيء في كوبا هو تغيير عقلية الناس". نعود الآن إلى مسابقة الطيور المغردة في ذلك الأحد بمدينة هافانا؛ إذ أبلغني ذلك المسؤول أن دورية للشرطة حلت بالمكان قبل الظهيرة. 
لكن لم يُلقَ القبض على أي شخص.. إذ كان أصحاب الطيور قد اختفوا. قال أحد المتفرجين: لقد تم إبلاغهم أن الشرطة في الطريق إليهم.

وحيـش يأبى الثبات

وحيـش يأبى الثبات

ترقُّبُ اكتشافات الديناصورات يعني أن وجهة النظر بشأنها لا تفتأ تتغير.

مــاذا لــو اختفــت الشمس.. الآن

استكشاف

مــاذا لــو اختفــت الشمس.. الآن

وُهِبنا في هذه الحياة، نحن البشر وسائر المخلوقات الأخرى، أشياء مجانية كثيرة؛ لعل من أبرزها ضوء الشمس. ولكن هل تساءل أحدٌ منّا يومًا عمّا سيحدث لو أن الشمس اختفت من حياتنا؟

لحظات مذهلة

لحظات مذهلة

يحكي مصورو ناشيونال جيوغرافيك، من خلال سلسلة وثائقية جديدة تستكشف عملهم، القصصَ التي كانت وراء صورهم الأكثر شهرة.