الغابات  عماد الحيـاة

سوزان سيمارد أستاذة بيئة الغابات لدى "جامعة كولومبيا البريطانية" ومؤلفة كتاب "العثور على الشجرة الأم: اكتشاف حكمة الغابة". وكتبت مقدمة كتاب ناشيونال جيوغرافيك الجديد، "في الغابة"، المتاح في منافذ بيع الكتب وعلى الموقع: books.disney.com

الغابات  عماد الحيـاة

الرسوم التوضيحية: أنطوان مايار

شرح "شبكة الغابات العنكبوتية الواسعة"

عندما بدأت "سوزان سيمارد" العمل في الحِراجة بعد دراستها في الكلية، كان الاعتقاد السائد هو أن الأشجار كائنات وحيدة ومنعزلة تخوض غمار منافسة "داروينية" شرسة على الماء وضوء الشمس والغذاء. وقامت شركات الأخشاب بغرس صفوف من الأنواع الأكثر درًّا للربح والقضاء على معظم أوجه المنافسة؛ أي اعتماد نهج "المزرعة" الذي كانت سيمارد ترى أنه يتجاهل العبقرية الفوضوية التي تَسِم الطبيعة بما لها من أنواع عديدة مترابطة.

الغابات عماد الحيـاة

عالمةٌ تخوض رحلة وسط أشجار وُسِمَت للقطع، لتُبيِّن ما للغابات من دور حيوي في إنقاذ الحياة البرية والبشرية.. وإنقاذ كوكب يزداد حرًّا على حَرّ.

قلم: سوزان سيمارد

1 مايو 2022 - مايو 2022 العدد

كانت البطن الجوفاء لجذع شجرة الأرز الصفراء العتيقة تبدو كأنها شرنقة بأرضيتها الناعمة المفروشة بشرائط اللحاء. فقد صنعت أنثى دب هذا "السرير" عندما كانت تأتي في كل عام من أجل السبات وإنجاب صغارها داخل هذه الشجرة التي يُقدر عمرها بألفي سنة. وكان الخشب العصاري يحميها في عز فصل الشتاء ضد البرد القارس الذي ينخر العظام، والرياح العاتية التي تنفث الثلوج. قبل عقد من ذلك، من المحتمل أن تكون هذه الأم قد وُلدت داخل العرين نفسه، بالقرب من منابع نهر "فيري كريك" في جزيرة فانكوفر، قبالة ساحل كولومبيا البريطانية بكندا. ولعلها كانت تعود كل خريف وقد خزنت الدهون لموسم بياتها الشتوي، بازدراد التوت والسلمون. التقطتُ شعرة من وبرها من بين حبيبات الخشب، وكانت رائحة العشب الرطب تمتزج بالخشب القلبي الذي يفوح بعطر الليمون والأمطار المنعشة الآتية من المحيط الهادي.
كنتُ هنا مع العديد من نشطاء البيئة، الذين ينعتهم خصومهم بالمتطرفين، بل وحتى بإرهابيي البيئة. أمّا هُم، فيطلقون على أنفسهم اسم حُماة الغاب، ويعملون لمنع شركة الأخشاب من مواصلة سعيها لإزالة هذه الغابة. وكان ستة شبان وشابات قد استقبلوني على الطريق التي شُقَّت مؤخرًا وسط البرية ليقودوني عبر جذوع الأشجار الضخمة والوديان العميقة إلى هذه الشجرة القديمة الذاوية. كانوا يتحدثون بحماس عمّا يُعاينوه بأم أعينهم من بومات صيّاحة وطيور "مورلت المجزعة" التي تعشش في ظلة أشجار الأرز، ويشيرون بأيديهم إلى الأشنات المرقطة التي تغلف اللحاء الناعم لأشجار الشوح "المستحب". فهذه الطيور والأشنات والعديد من الأنواع الأخرى المعرضة لخطر الانقراض تعيش وسط بيئة تضم أكثر من 325 نباتًا وطحلبًا وثدييات وأعدادًا لا حصر لها من الفطريات والجراثيم في مستجمعات المياه في فيري كريك.
وكان المدافعون يدركون أن من دون هذه الأشجار، ما كان لأي ديسم (صغير الدب) أن يولد، ولا للأشنات أن تمتص ضباب الجبل، ولا للفطريات التي تنمو على الأشجار المعمَّرة أن تربط الأشجار الأم بنسلها. فقد كان المدافعون المتجمعون داخل العرين المفرغ يعتريهم قلق من هطول الأمطار الوشيكة، وكان يحدوهم الأمل في أن يؤخر تساقط الثلوج المبكر عملية القطع.

نشأتُ في غابات كولومبيا البريطانية. وكان أعمامي وجدي يستخدمون الخيول لسحب الأخشاب المقطوعة، ويقطعون الأشجار بشكل انتقائي للغاية، إلى درجة استوجبت البحث لتحديد المكان الذي قُطعت فيه هذه الشجرة أو تلك. وكان جدي يخبرني عن حياة الغابات الهادئة والمتماسكة وكيف اندمجت فيها عائلتي. سرتُ على خطى جدي. فدرست الحِراجة وتوليت وظائف في "هيئة الغابات الكندية" وصناعة الأخشاب. وسرعان ما بدأت أعمل إلى جانب الأشخاص النافذين المسؤولين عن استغلال الأخشاب للأغراض التجارية. لكنني كنت أجد النطاق الواسع الذي يتخذه قطع الغابات باعثًا على القلق، وكنت أشعر بالاستياء مما يُسند إلي من مهام متضاربة. وعلاوة على ذلك، كان رش المبيدات وقطع أشجار الحور والبتولا لإفساح المجال أمام زرع أشجار الصنوبر والتنوب ذات القيمة التجارية أمرًا يبعث على الحيرة والذهول. وكان يبدو أنه ما مِن شيء يمكن أن يوقف هذه الآلة الصناعية القاسية والعنيدة عن الدوران. لـذلك عــدت إلى الكلية، ودرسـت علوم الغـابات. وكــان الباحثون قد اكتشفوا آنذاك أن بإمكان جذر شتلة واحدة من الصنوبر نقل الكربون إلى جذر شتلة أخرى من الصنوبر.. ولكن ذلك كان في المختبر. هنالك تساءلت: هل يمكن أن يحدث الأمر في الغابات الحقيقية؟ كنت أرى أن الأشجار في الغابات الحقيقية قد تتبادل المعلومات أيضًا تحت الأرض. كان ذلك مثيرا للجدل، واعتقد بعض الناس أنني مجنونة، ووجدتُ صعوبة كبيرة في الحصول على تمويل لهذا البحث. لكنني ثابرت في بحثي.

"هل تسمعون حفيفًا؟"، سألتُ بتوتر شديد. "مروحيات!" همسَت امرأة كانت إلى جواري داخل العرين. فخرجنا لنرى المروحية التي بدت كأنها يعسوب معدني يتحرك مضطربًا فوق التلة، وكان رجال يحدّقون من النوافذ المعتمة. وتحت هدير الدوارات، كانت شجرة الأرز الأم تنتصب على ارتفاع نحو 35 مترًا؛ وعائلتها [من الأشجار اليافعة] تحيط بها وكأنها تحكي بافتخار قصة أصلها وتحاول حمايتها. كان هذا البستان الذي تتالت عليه أجيال متعددة من الأشجار قد صمد آلاف السنين في وجه التغيرات المناخية واجتياح الحشرات وعواصف الرياح، وتغذى على مرّ قرون ممّا تحمله رحلات السلمون. وقد طُبعت هذه التجارب في البذور وحلقات الأشجار، وانتقلت المعلومات من شجرة إلى أخرى عبر شبكات فطرية تحت الأرض. واستطاعت آلياتُ الدفاع التي تطورت على مرّ ملايين السنين تعزيز قدرة هذه الأشجار على تحمل درجات الحرارة القصوى ودرء العواشب. ومكنت هذه الغابةَ أيضًا من تخزين قدر من الكربون (1300 طن لكل هكتار) يساوي مقدار ما تجمعه غابة استوائية مطرية. لكن هذه الدفاعات، كما كان يعلم الجميع، لم تكن ندًّا للمناشير السلسلية. ركضنا وانزلقنا عبر المنحدر الحاد إلى الرقعة الصغيرة المجتثة من الجبل، حيث كانت المروحية تحلق فوق مهبط طائرات مؤقت. صعد أحد المدافعين إلى هذا المدرج ولوّح بذراعيه كما لو كان يصد الطائرة عن النزول.  لقد باتت المواقف بين قاطعي الأشجار والمعارضين تكشف تباينات صارخة مثل دويّ الرعد في السماء. فالجميع بحاجة إلى هذه الأشجار، ولكن لأسباب مختلفة. ويتنازع الناس فيما بينهم على صناعة لم تعد تحقق لغالبيتهم الاستفادة المثلى. استدارت المروحية فجأة وحلقت عبر الوادي.

اجتزنا الرقعة المجتثة حيث كانت الأرض مليئة بحشيشة "الرئة" التي تساقطت مع تيجان الأشجار؛ مما يحرم الغابة من النيتروجين الأساسي. فقد رأينا على اللحاء النافق لجذوع الأشجار العملاقة المتساقطة أشنات مرقطة يابسة -وهي نوع يُعدّ معرضًا للخطر في المقاطعة- لكن القوانين كانت أضعف من أن تحميها، حتى قبل أن يَعلم بوجودها قاطعو الأشجار. مررنا عند سيرنا في مسار ضيق بين الأشجار بزنبقيات (Prosartes smithii) التي كان يصل ارتفاعها إلى كواحلنا، وجذر الأفعى المجلجلة الغربية، وصنوبر "الأمير الصغير"، وكلها أنواع كنت أشك بأنها مرتبطة بالشبكات الفطرية لأشجار التنوب المعمَّرة وتتلقى مُغذّيات إضافية في ظل الغابة الوارف. وتزود هذه النباتات النادرة الفطريات بمصدر إضافي للكربون. وتخزن الغابات القديمة كهذه ضِعف كمية الكربون الموجودة في الغابات التي لا يتعدى عمرها المئة عام، وستة أضعاف أو أكثر مقارنة مع المناطق التي أزيلت غاباتها. ومع تقدم الأشجار في العمر، تواصل تخزين الكربون في جذوعها وعزله في التربة حيث توفر له الحماية. وتخزن غابات العالم وتربتها مجتمعة نحو 90 بالمئة من الكربون الأرضي العالمي. ثم سرعان ما دخلنا إلى رقعة أخرى مجتثة حيث صارت أوراق النباتات الصغيرة التي تعتمد على الغابات القديمة محروقة ويابسة بفعل تعرضها لأشعة الشمس. وكانت الأشجار القديمة التي قُطعت مطروحة أرضًا بشكل متوازٍ ومصوَّبة باتجاه الورشة حيث ستحول إلى ألواح خشبية ونشارة الخشب وأحيانًا إلى هيكل لآلة موسيقية وترية. وقد أكدت الدراسات أن قطع الأشجار بالغابات القديمة يطلق ما بين 40 و65 بالمئة من كربون النظم البيئية في الغلاف الجوي (حتى مع احتساب كمية الكربون المخزَّنة خارج الموقع في منتجات الأخشاب). رحتُ أسير فأثار انتباهي ما كشفه شق الطريق من طبقة الدبال ذات اللون البني الداكن والتي يناهز سمكها المترين والغنية بالكربون. فقد كان نحو نصف الكربون الموجود في هذه الغابة مُخزنًا في هذه الطبقة، والنصف الآخر في الأشجار. وما إن تَختل أرضية الغابة بآليات القطع وتتعرض للهواء حتى يُفقَد نحو 60 بالمئة من الكربون من خلال الإزاحة والتآكل والتحلل. ويشير بَحثي أيضًا إلى أن نسبة 90 بالمئة تُفقد في نهاية المطاف عندما تُقطع مزارع الأشجار البديلة مرة أخرى. لم تعد في مقاطعة كولومبيا البريطانية سوى 3 بالمئة من الأشجار القديمة المميزة التي تنمو في قاع الوادي؛ والحال أننا نسعى جاهدين لقطع هذه الأشجار أيضًا. ويَحدث الأمرُ نفسه في جميع أنحاء العالم. بعد شهر على ذلك، بدأت الأمطار تتساقط وقُطعت شجرة الأرز الأم القديمة وغابتها المحيطة بها. واستمر هطول الأمطار. وبعد شهر آخر، تآكلت التربة -التي جُرِّدت من الأشجار- وتضخمت الأنهار، وفي أجزاء من المقاطعة، غمرت المياه المدن.

فما عسانا أن نصنع حتى تنتهي هذه القصة على نحو مختلف في المرة المقبلة؟ أولًا، يجب أن نتوقف عن تحويل الغابات الطبيعية إلى مزارع صناعية وحقول زراعية. فالتزام الحكومات بوضع حد لإزالة الغابات على مستوى العالم في أفق عام 2030 يُعد خطوة أولى في الاتجاه الصحيح؛ لكن التعهد يجب أن يشمل أيضًا إنهاء ممارسات الحِراجة الصناعية. وينبغي للشركات أن تتحمل المسؤولية عن الأضرار والانبعاثات التي تحدثها في سعيها إلى الربح.
ثانيًا، يمكننا اتخاذ إجراءات فورية لحماية النُّظم البيئية للغابات القديمة واستعادتها.
ثالثًا، يمكننا الضغط من أجل إقرار سياسات إدارة الأراضي التي تعيد المزارع إلى الغابات الطبيعية حيث نقطع الأشجار بشكل انتقائي بمعدل أقل حفاظًا على التنوع الحيوي وإمدادات المياه ومخزون الكربون. ويمكننا من خلال فرض ضرائب على المتسببين في انبعاثات الكربون من الغابات، استعادة العدالة الثقافية والاجتماعية لفائدة المجتمعات الريفية ومجتمعات الشعوب الأصلية؛ فنكافئ حراس الغابات بما يدفعه الملوثون. فهذه طريقة ميسَّرة لتحقيق انتقال عادل.
رابعًا، نحن بحاجة إلى سياسات مناخية تركز على حماية مصارف الكربون في الغابات ومنع الانبعاثات الناجمة عن قطع الأشجار بقدر تركيزها على منع انبعاثات الوقود الأحفوري.
وأخيرًا، يجب علينا التحول من علاقة مع الطبيعة يطبعها الاستغلال واللامبالاة إلى علاقة حميمة معها تعزز حمايتها وتجددها.
ويمكننا جميعًا أن نتعلم من شعوب "ساليش" الساحلية في شمال غرب المحيط الهادي التي أدركت منذ زمن بعيد أن الأشجار هي أقرباؤنا وأن الغابة تمتد على حدود العديد من الدول التي تعيش جنبًا إلى جنب في سلام. وستكون هذه الروح الجماعية ضرورية لبناء التحالفات وتشكيل شبكة تربطنا جميعًا وتجعلنا أقوى وتساعدنا على حماية غاباتنا من أجل الأجيال المقبلة.

استكشاف

لعب الكبار.. ضــرورة

لعب الكبار.. ضــرورة

يميل الكبار إلى تجاهل اللعب بوصفه أمرًا سخيفًا أو طفوليًا، لكن المرح قد يكون أمرًا أساسيًا لبقاء نوعنا البشري.

مقابلة مع عالِم ونجم لموسيقى الروك

استكشاف فكرة نيرة

مقابلة مع عالِم ونجم لموسيقى الروك

يمزج "بريان ماي" -أحد مؤسِّسي فرقة "كوين" ومستشار وكالة "ناسا"- بين الفيزياء الفلكية وموسيقى الروك لخلق تناغم كوني.

جاذبية العزلة والمنعزلين

استكشاف فكرة نيرة

جاذبية العزلة والمنعزلين

يعيش سكان جزيرة سينتينل الشمالية على الصيد وجمع الثمار.. وصد الغرباء. ورغم ذلك، فإن العالم يرفض أن يتركهم وشأنهم.