هكذا تُصبح سمكةً..

الذي شارك في اختراع ذلك الجهاز. في هذه الصورة المأخوذة من أرشيف "ناشيونال جيوغرافيك"، ينزل غواصان مرتديان "الرئة المائية" إلى "شِعب رومي" المرجاني في البحر الأحمر لحمل عيّنات من الأسماك في أكياس.

هكذا تُصبح سمكةً..

"إن أفضل طريقة لتصبح سمكة -أو نسخة معقولة منها- هي أن تتزود بجهاز تنفس تحت الماء يُدعى الرئة المائية"، كما قال "كوستو"

هكذا تُصبح سمكةً..

تمكن "لوران باليستا" وفريقه، بفضل هذا الابتكار المعروف بناقوس الغوص، من قضاء 28 يومًا في أعماق البحر المتوسط في يوليو 2019.

هكذا تُصبح سمكةً..

مَهَّدَ اختراعُ "جاك إيف كوستو" -مع زميلٍ له- "الرئةَ المائية" السبيلَ للعلماء لسبر أغوار البحار.. وكذا لعامة الناس التواقين لاستطلاع هذه العوالم المائية.

قلم: رايتشل هارتيغان

1 مارس 2022 - تابع لعدد مارس 2022

قال لي ابني "ويل": "انظري".

كانت المياه تتمايل بنا صعودًا وهبوطًا في ظل رصيف بحري على "جزيرة فيكويس" في بورتو ريكو. استظللنا من أشعة الشمس الاستوائية بألواح الرصيف الخشبية التي كانت تعلونا بنحو متر واحد فقط؛ أما  أعمدته التي بدت عليها عوادي الطقس المتقلب، فكانت منغمسة تحت سطح الماء. كان الجو معتدلا هناك لكن المشهد أجردٌ؛ إذ لم يصلح هذا الرصيف سوى لنيل قسط يسير من الراحة خلال مغامرتنا الأولى في مجال الغطس السطحي (باستعمال أنبوب التنفس).
أشار "ويل" بإصبعه إلى الأسفل، وقد بدت عيناه متسعتين من خلف قناعه. ثم ما لبث أن غمس رأسه تحت الماء. فتبعته.
هنالك ولجنا عالمًا آخر. كان الرصيفُ فوق الماء مجرد هيكل باهت من خشب مُعوجّ يعلوه دهان متقشر؛ أما تحت الماء فكان يعج بالحياة: شعاب مرجانية برتقالية وصفراء تلتف حول الأعمدة، ونباتات بحرية مورقة تتموج مع التيار، وأسراب سمك فضية تجوب المكان بحركاتها المندفعة. إذ يتميز هذا الركن الضيق المتواري تحت رصيف بُني منذ عقود لرسو السفن الحربية الأميركية، بخصب وفير مثل أي غابة.. غير أنه يختلف عن الغابة من حيث إننا يمكن أن نطفو في وسطه ونفحصه من كل زاوية.
لم نكن نتخيل قَط أن نكون محاطَين بقدر كبير من الحياة البرية؛ على أن كل ذلك لم يكفِ "ويل". فعندما سارت بنا شاحنة مرشدينا الصغيرة والعتيقة، التي لم تنفك تقعقع مع هدير محركها في طريق العودة إلى الفندق، صاح قائلا: "لقد كانت تجربة رائعة. لكني أريد أن أجرب الغوص بجهاز التنفس تحت الماء". إذ لم يرغب "ويل" في أن يظل حبيس سطح الماء بأنابيب التنفس التي استأجرناها. بل كان يحلم بالغوص في مستويات أعمق والتمتع باستكشاف المحيط بلا قيود.
حُلمُ ابني هذا ممكن -بل أمر شائع وعادي- بفضل جهاز بسيط للغاية شارك في ابتكاره "جاك إيف كوستو"، المستكشف الفرنسي المعروف بأفلامه الوثائقية وبرامجه التلفزيونية وجهوده في مجال صون البيئة البحرية. وقد وضع "كوستو" لنفسه الشعار التالي: "يجب أن نذهب ونرى بأنفسنا". وكان اختراعه المشترك في عام 1943 لـ "الرئة المائية"، أول جهاز آمن وقائم بذاته للتنفس تحت الماء (SCUBA)، بمنزلة دعوة للأشخاص العاديين لاعتماد شعاره وخوض غمار استكشاف عوالم البحار بأنفسهم.
تَعلّم "كوستو" السباحة في الرابعة من عمره، على أن طموحاته الأولى كانت تستهدف السماء لا البحر. وفي عام 1930، التحق بـ"الأكاديمية البحرية الفرنسية" ليصبح طيارًا، وهو حلم لم يَصرفه عن تحقيقه سوى حادث سيارة كاد يودي بحياته وخرج منه بذراعين مكسورتين. واقترح عليه زميله الضابط البحري، "فيليب تايي" أن يجرب السباحة في المحيط لمساعدته على التعافي، وأعاره نظارات واقية وأخذه إلى الصيد بالرمح في مياه البحر المتوسط غير بعيد عن مدينة تولون بفرنسا.
كانت السباحة بالنظارات الواقية بمنزلة الإلهام الذي سيفتح آفاق مرحلة جديدة من حياته؛ إذ قال: "ما إن وضعت رأسي تحت الماء حتى أحسستُ بأني وجدت ضالتي.. وأدركتُ أني بدءًا من ذلك اليوم، سأخصص كل وقت فراغي لاستكشاف أعماق المياه". ومع الوقت، استطاع "كوستو" الوصول إلى عمق 18 مترًا والبقاء هناك مدة بلغت 80 ثانية. لكن ذلك العمق وتلك المدة لم يُرضيا طموحَه. "لم أكن راضيًا قَط عمّا يفرضه علي حبس الأنفاس من قيود"، هكذا كتب في مقال نَشَره عام 1952 على صفحات مجلة "ناشيونال جيوغرافيك" العالمية، وكان الأول له في المجلة. 

ففي ثلاثينيات القرن الماضي، كانت خيارات الغوص في المياه العميقة ضئيلة. وكانت الحركة بِعُدّة الغوص التي عُرفت باسم "المِغطسة" (وهي بذلة من الخيش مغشاة بالمطاط ومزودة بخوذة نحاسية وحذاء ذي نعل من الرصاص) محدودة ومقيَّدة بحكم طول الخرطوم الذي يمد الغواص بالهواء من السطح. وساعد جهازُ تنفس قائم بذاته، ابتكره "إيف لوبريور" عام 1925، في تحرير الغواصين من الخرطوم المرهق، لكن مخزون الهواء كان ينفد بسرعة بسبب تدفقه المستمر؛ مما كان يقلص مدة البقاء تحت الماء. وهكذا كان على "كوستو" أن يأتي بحل من عنده؛ إذ قال: "لقد أصبحت مخترعًا بحكم الضرورة". فكَي يغوص في مستويات أعمق، كان يحتاج إلى جهاز يوفر هواءً يصلح للتنفس ويتناسب أيضًا مع ضغط الماء. فكلما نزل الغواص إلى العمق، ازداد الضغط؛ مما يقلل من حجم الهواء في الجسم ويمكن أن يتسبب في انهيار الرئتين. استطاع كوستو، بترتيبٍ مِن حماه، التواصل مع المهندس "إميل غانيون"، خبير التصاميم الهوائية عالية الضغط. كان ذلك في منتصف الحرب العالمية الثانية، وكانت ألمانيا تسيطر على معظم أجزاء فرنسا. وكان "غانيون" يعمل لدى أكبر شركة غاز فرنسية في باريس حيث كان قد ابتكرَ صمّامًا ينظم تدفق الوقود، أتاح إمكانية تشغيل السيارات باستخدام زيت الطهي؛ وقد أملت ظروف الحرب إجراء هذا التطويع عندما عمد النازيون إلى مصادرة كل كميات البنزين لاستخدامها في المَركبات.
وعندما سافر "كوستو" إلى باريس في عام 1942 لعرض مشكلة ضغط الهواء على "غانيون"، فكر هذا المهندس في إمكانية أن يكون الحل هو مُنظّم الغاز الذي كان قد ابتكره. فعَمِلا معًا على إنجاز شيء يمكنهما اختباره، وهو منظم مثبَّت بواسطة أنابيب على ثلاث عبوات من الهواء المضغوط. أخذ "كوستو" النموذج الأولي لاختباره في السباحة في نهر "مارن"، شرق باريس؛ إذ قال: "أخذت أنفاسًا عادية بإيقاع بطيء، وأحنيت رأسي، ثم سبحت بسلاسة حتى عمق 9 أمتار".
عمل الجهاز بنجاح.. عندما غاص "كوستو" في وضع أفقي. أما عندما كان في وضع مستقيم، فقد تسرب الهواء. هنالك أعاد "كوستو" و"غانيون" ترتيب أنبوبي السحب والعادم ليكونا عند المستوى نفسه. وفي نهاية المطاف، حصلا على نموذج تَيَقنَ معه "كوستو" أنه سيعمل عند تجربته في البحر.
وعلى مَرّ شهور من عام 1943، قام كل من "كوستو" و"تايي" وصديقهما "فريديريك دوما" باختبار الجهاز الذي كانوا يسمونه "الرئة المائية" (Aqualung) بحذر شديد. فقد أنجزوا أكثر من 500 عملية غوص في البحر المتوسط، حيث كانوا يتدرجون في كل مرة في النزول إلى عمق أكبر فأكبر. ومع مطلع فصل الخريف، كانوا قد بلغوا عمق 40 مترًا. وبحلول أكتوبر، كان "دوما" قد زاد على ذلك 27 مترًا. وكتب "كوستو" في ذلك المقال الأول لحساب "ناشيونال جيوغرافيك" ما يلي: "إن أفضل طريقة لمعاينة سمكة هي أن يصبح المرءُ سمكة. وأفضل طريقة ليصبح سمكة -أو نسخة معقولة منها- هي أن يتزود بجهاز تنفس تحت الماء يُدعى 'الرئة المائية'. فهذا الجهاز يحرر المرء ويجعله ينحدر بتؤدة من دون أن يصاب بأذى في أعماق البحر".

ولا يزال التصميم الأساس نفسه قيد الاستخدام على الرغم من مرور زُهاء 80 عامًا على اختراعه. وفي وصفه، يقول "ديفيد دوبيليه"، المصور تحت الماء لدى "ناشيونال جيوغرافيك" منذ زمن طويل: "إنه بسيط وأنيق مثل مقبض الباب. إنه لا يتعطل. فخلال 65 عامًا من الغوص، لم يسبق أنْ حدث لي أي عطل". 
لكن القدرة على سبر الأعماق كانت تُعرِّض الغواصين لمخاطر أخرى. فعلى الرغم من أن "الرئة المائية" سهّلت عملية التنفس عن طريق الموازنة بين الضغط المحيط والضغط الداخلي، لم تكن تَحول دون وقوع ما يُعرف بنشوة العمق، أي التخدر بالنيتروجين، وهو الحالة التي يصبح فيها الجهاز العصبي مشبعًا بالنيتروجين مع نزول الغواص إلى عمق أكبر فأكبر. ووصف "كوستو" ذلك بأنه "إحساس بالنشوة، يَليه فقدان تدريجي للتحكم بردود الفعل، ثم فقدان لغريزة الحفاظ على الذات".  أما "ألبير فالكو" الذي رافق "كوستو" في البحر زُهاء 40 عامًا، فيرى أن "الهواء يتخذ طعمًا غريبًا، ويصبح المرء سكرانًا من جرّاء أنفاسه".
ومن الممكن أن يتسبب تخدر النيتروجين في الوفاة. ففي عام 1947، قام "كوستو"، الذي كان لا يزال يعمل لدى "البحرية الفرنسية" ضمن مجموعة الأبحاث تحت الماء، بإجراء اختبارات غوص خارج إطار العمل في مدينة تولون. كان يريد أن يُقيم الدليل على قدرة "الرئة المائية" على تمكين الغواصين من النزول إلى عمق يزيد على 100 متر. لكن الشخص الذي أنجز المحاولة الأولى، وهو مساعد القبطان "موريس فارغيس"، لقي حتفه؛ إذ فقد وعيه بعد أن تجاوز عمق 120 مترًا. سُحب "فارغيس" على عَجل إلى سطح الماء، لكن محاولات إنعاشه باءت بالفشل.  أحس "كوستو" بالذهول والأسى؛ إذ قال: "بدأت أتساءل عن مدى جدوى ما أقوم به". أما البحرية الفرنسية، فكانت ترى ذلك منطقيًا. إذ نشرت مجموعة الغواصين لإزالة الآثار المُميتة التي خلّفتها الحرب العالمية الثانية من البحر المتوسط، وإزالة الألغام المخبأة بالقرب من الموانئ، وانتشال جثث الطيارين الذين أُسقطت طائراتهم. لكن "كوستو" رغب باستخدام اختراعه في الاستكشاف، لا في الإنقاذ فحسب. ففي عام 1949، غادر البحرية وسرعان ما اشترى "كاليبسو"، وهي كاسحة ألغام بريطانية سابقة. واستطاع الرجلُ خلال مغامراته الاستكشافية على متن هذه السفينة، تطوير التصوير تحت الماء؛ إذ اكتشف أن في ذلك المكان "ألوانًا تضاهي في لمعانها وجمالها الألوان الموجودة على السطح". وفي عام 1956، أخرج "كوستو" فيلم "العالم الصامت" بمشاركة شاب اسمه "لويس مال"، أصبح مع مرور الوقت من صفوة مخرجي السينما الفرنسية.

شاهد "ديفيد دوبيليه" هذا الفيلم، الذي نال جائزة الأوسكار، بصحبة عمّه وابنه عندما كان في العاشرة من عمره. يقول: "كانت عيناي تتسعان أكثر فأكثر". فقد أصبح "كوستو" بطلا في عينيه. وبعد عام أو عامين، تعلم "دوبيليه" الغوص في حمّام سباحة بأحد النوادي الشاطئية في نيوجيرسي؛ وفي غضون ما يقرب من عشرة أعوام، كان اختراع "كوستو" الرائد قد اعتُمد من الجمهور الواسع بوصفه وسيلة ترفيهية. يقول "دوبيليه" مستذكرًا: "وضعتُ عليَ الجهاز، ونزلتُ إلى قاع المسبح. فعلقت في الأسفل، لكنني كنت أتنفس، وكان الأمر ممتعًا". واصل "دوبيليه" مساره ملتقطًا صورًا من أعماق بحر "سارغاسو"، و"الحاجز المرجاني العظيم"، وعجائب المحيطات الأخرى، وثّق بها لأكثر من 70 مقالًا لمصلحة "ناشيونال جيوغرافيك". وهو يرى أن "مُنظّم الرئة المائية كان بمنزلة جواز سفر إلى 70 بالمئة من كوكبنا.. ويَظل كوستو شخصًا لا يمكن على الإطلاق تناسي أهميته لكوكبنا أو تبخيسها"، حسب تعبيره. ولم يَسلم المصورُ "لوران باليستا"، الذي نشأ في أجواء السباحة والغطس والغوص على ساحل البحر المتوسط بفرنسا، من تأثير "كوستو" أيضًا. فعندما بلغ السادسة عشرة من عمره، خرج برفقة أصدقائه في رحلة على متن قارب. هنالك أحاطت بهم أسماك القرش. لكنه أدرك، استنادًا إلى مشاهداته الدائمة لأفلام كوستو الوثائقية، أنها أسماك قرش غير مؤذية صعدت لتتشمس؛ فما كان منه إلا أن قفز إلى الماء للسباحة معها.
وعندما أخبر "باليستا" والديه بما حدث ولم يصدقاه، "كانت تلك هي اللحظة التي اتخذتُ فيها قرارَ تعلم التصوير الفوتوغرافي"، على حد قوله. ظل "جاك كوستو" دائب النشاط في استكشاف أعماق البحر حتى وفاته عام 1997وهو في الـ 87 من العمر. وقد كانت وظيفته، كما كتب ذات مرة، هي "إظهار ما في البحر -أي مباهجه- حتى يتعرف الناس إلى البحر ويحبونه". على أنه ما يزال هناك كثيرٌ مما ينبغي استكشافه؛ إذ إن أكثر من 80 بالمئة من العالم الموجود تحت سطح البحر، حسب تقديرات "الإدارة الوطنية الأميركية للمحيطات والغلاف الجوي"، لا يزال غير معروف إلى حد كبير. وعلى مَرّ الأعوام التسعة والسبعين التي تلت اختراع "كوستو" و"غانيون" جهازَ "الرئة المائية"، سار أكثر من 28 مليون شخص على أثرهما في المحيطات وتعلموا الغوص في الأعماق. وخلال هذا الربيع، سننضم أنا وابني إليهم. فذلك ما أراده "ويل" في عيد ميلاده السابع عشر.. جواز سفر إلى عالم آخر.

استكشاف

لعب الكبار.. ضــرورة

لعب الكبار.. ضــرورة

يميل الكبار إلى تجاهل اللعب بوصفه أمرًا سخيفًا أو طفوليًا، لكن المرح قد يكون أمرًا أساسيًا لبقاء نوعنا البشري.

مقابلة مع عالِم ونجم لموسيقى الروك

استكشاف فكرة نيرة

مقابلة مع عالِم ونجم لموسيقى الروك

يمزج "بريان ماي" -أحد مؤسِّسي فرقة "كوين" ومستشار وكالة "ناسا"- بين الفيزياء الفلكية وموسيقى الروك لخلق تناغم كوني.

جاذبية العزلة والمنعزلين

استكشاف فكرة نيرة

جاذبية العزلة والمنعزلين

يعيش سكان جزيرة سينتينل الشمالية على الصيد وجمع الثمار.. وصد الغرباء. ورغم ذلك، فإن العالم يرفض أن يتركهم وشأنهم.